
لم أستأذن شيخنا الكملي في مغادرة جلسته،
قبلت أن أكون مبعوثا ملكيا خاصا..
هكذا أقنعت رفاق الزفزافي وهكذا قطعت دابر الفتنة..
صُحْبةُ الشيخ “الكملي”، بعد أداء صلاتي الصبحية، خيار لم يعد لي عنه مناصٌ، كلُّ يوم يختار لي “اليوتوب”، ما لذَّ وطاب من حدائق هذا الشيخ الموسوعي الجميل، فليس شرطا أن أحدد موضوعا لأتحصل الفائدة المرجوة، والمتعة المطلوبة، فكل مواضيعه تشتهيها العقول قبل القلوب، وكلها مُمْتِعة ومفيدة.
هذه المرة كان حظي مع خطبة لزياد بن أبيه، ألقاها على أهل البصرة لما قدم إليها واليا من لدن معاوية بن أبي سفيان، سنة 45 هجرية، وسميت خطبته تلك بالبُتَيراء، أو البتراء، وجاءت في سياق نفس تأديبي من الوالي المتشدد، حيث أن هذه الخطبة حسب صديقنا “الشيخ سعيد الكملي” كانت كضربات السيف، بل أحدَّ منه، وأكثر تأثيرا بسبب مشاغبة الأهالي ومناوأتهم للنظام الحاكم، فقد افتتحها دون الحمد والثناء على الله أو الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرع في تهديد الناس، وتوعدهم بإعمال القسوة، فيهم، “أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفُجر الموقد لأهله النار الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي به سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير كأن لم تسمعوا بآي الله، ولم تقرؤوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكبير لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته ..” إلى أن قال “حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقاً.”
لم أستأذن، شيخنا الكملي في مغادرة جلسته، فقد أخذتني غفوتي بالمبادرة، وانصرفت أبحث عن هاتفي متصلا بالملك محمد السادس، أريد القيام بدور دبلوماسي وسياسي متأسيا بزياد بن أبيه، أريد إخماد ثورة الريف، والقيام بدور فشل فيه السياسيون والأمنيون، حيث تفاقمت الأمور، وساءت الأحوال الأمنية، وتعاظمت المظاهرات، طلبت موعدا مع “سيدنا” عرضت عليه أن أنهي الانفلات الأمني، وبطبيعة الحال فقد حظيت برضاه الفوري، وتلقى جلالته مقترحاتي بحبور وسرور، لم لا وأنا أقوم بمهمة جليلة، والأهم أني متحرر من أي خوف، فأنا في مأمن الآن، ما دمت أسبح في حلمي غير مبال ببطش الباطشين، أو خاضعا لإملاءات الخائضين، ولا خائفا من ذوي التجبر والسلطان، فمطالب أهالينا لا تعدوا أن تكون مطالب حقوقية واجتماعية صرفة، فهم يهتفون للوطن، ويجددون في شعاراتهم الولاء، والتأييد للملك، مظاهراتهم سلمية مسالمة، مطالبهم منحصرة في محاسبة المفسدين، وتوزيع الثروة بعدل وإحسان، دون تمييز، أو تقتير.
بعد موافقة جلالته، وتزويدي بما يكفيني من مؤونة، وتعليمات، وتوجيهات،، ومنحي الصلاحيات،،، أسرعت الخطى نحو سجن الدار البيضاء أبغي مقابلة “الزفزافي” زعيم حراك الريف وأيقونة المتظاهرين، حيث يتابع معتقلا، بعدة تهم أبسطها ستكلفه المؤبد، في ظل قضاء يُطرح بشأنه أيضا ألف سؤال، وتُناقش نزاهته ألف مرة في أدمغة الحقوقيين، قبل أن يعلنوا مواقفهم في الندوات والملتقيات، قضاء يجر الناس جرا لمحاكمات صورية، بروح انتقامية، ـ هكذا يشاع ـ جعلت فئات من المجتمع تطرح علامات الاستفهام حول مدى نزاهته واستقلاليته، قضاء متهم بالتسيس والانحياز، بل بالتبعية للنظام وأركان الدولة العميقة، وحتى لأشخاص من ذوي النفود، والنقود.
بطبيعة الحال، لا أستطيع في هذه الأسطر تلخيص ما جرى بيني وبين الزفزافي ورفاقه، فضلا عن وصف مجريات المفاوضات، غير أني أجزم أنهم جميعا لمسوا جديتي، وصدقوا حججي، واحترموا رغبتي الأكيدة في إنهاء أزمتهم مع أركان الدولة العتيقة،، والعميقة،، والعليلة،، المتشبثين بمعاقبتهم وتأديبهم، عوض الاستجابة لمطالبهم العادلة، والكف عن الكيل بمكيال الظلم والجور والاستقواء بالأجهزة الأمنية، وهراوات شُرَطها، عوض الالتجاء إلى ميزان العدل والقسط، إكراما لمغاربة قهرهم الفقر وأذلتهم الحاجة.
لقد أكدت لجلالة الملك أن هؤلاء المتظاهرين ليسوا خوارج كارهين للدولة، وليسوا انفصاليين عاصين، يُشك في وطنيتهم، هم مواطنون شرفاء، فضلوا قطع صلتهم بالصمت الذي بات مرضا مؤديا، وضاقوا ذرعا بوعود الواعدين، وشعارات السياسيين الواهمين، هم مواطنون محبين لمغربهم، آثروا أن يوصلوا صوت الحقيقة لجلالته، ملتمسين ما يعتبرونه ظلما لهم ولمدينتهم، هم مجرد طامعين في التفاتة إنسانية، وفرصة تنموية.
هكذا استفدت من خطاب زياد بن أبيه، وما فائدة الاستماع لدروس “الكملي”، إذا لم تكن ملهمة، لنا في القيام بواجب الصلح والإصلاح، دون أن أُسْقِط واقع البصرة وعلاقة أهاليها بالنظام الأموي الذي كان يصر على تثبيت أركان الدولة والقضاء على كل جيب للفوضى والعصيان، بينما سكان الشمال المغربي كحال إخوانهم في مختلف أرجاء الدولة، يشتكون من ظلم المتنفذين المتوحشين، والمنتخبين الكاذبين، والسياسيين الفاسدين، وضاقوا ذرعا بسياسة الإقصاء والتهميش، فهم لا يطلبون إسقاط النظام، أو الخروج عليه، كما لم يتورط أحدهم في جريمة قتل أو ثبت تلبسه بعمل تخريبي، فجل مطالبهم منحصرة في بناء جامعة ومستشفى، وطريق صالح للاستعمال، والحصول على وظائف كريمة لأبنائهم، تَقيهم ذل السؤال وألم الفقر والحاجة.
كأني بهؤلاء المسؤولين الذين يرفعون التقارير المنقوصة إلى الملك، يقولون بلسان حالهم ما قاله والي معاوية “.. لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه.”
هؤلاء المسؤولين، يرون أنفسهم سادة على السادة، ورجال دولة فوق العادة، لا يقبلون نصحا ولا يسمحون برأي ممن هم مجرد رعايا (في نظرهم)، لا يقبلون سماع رأي أو إبداء فهم، هم الدولة والدولة بدونهم دَنية، وما علموا أنهم باتوا عالة على الناس، ومنهم تنهال عليهم اللعنة.
لا أدري هل نجحت في مهمتي، وأديت واجبي نصرة للمظلوم، وحفاظا على وحدة وطني الجريح، نعم، الزفزافي ورفاقه لا يزالون داخل أسوار السجن، متابعين بتهم ثقيلة، مصيرهم لا يزال مجهولا، وأحكام الإعدام والمؤبد، تلاحق معظمهم، ولكني أسمعت ملكنا المفدى، الرئيس الأعلى للقضاء، وجهة نظرهم، ضامنا عدم تأويل مواقفهم، ولا تزوير شهادات الشاهدين فيهم، ونقلت له مطالبهم دون تشويش أو تشويه، وأظن أن الرأي السديد لجلالته سيعلو كل رأي، فتترجح كفة العدل والصفح ويُنصف كل مظلوم ومكلوم.
نعم، عدت إلى الشيخ “الكملي”، دون أن أعرف نتائج مجهوداتي، سمعته يقول بلسان بن أبيه “أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذى خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا، عدلنا وفيأنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أنى مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا رزقا ولا عطاء عن إبانة، ولا مجمرا لكم بعثا.
قلت في نفسي، رحم الله طغاة أمس، فلو عادوا اليوم إلينا حكاما لكانوا أرحم وأحن من هؤلاء المتسلطين، المتفيقهين، الذين طال تغنيهم بدستور جديد، وبحرية آتية، وثراء قادم، فما صدقوا الله ولا الشعب، ولا استفادوا من تاريخ أمة عظيمة، في أحلك أحوالها كان العدل أساسها وقاعدة الْتزَمَ بها حكامها وولاتها.
*محمد غازي : مستشار إعلامي,صحفي مغربي
إقرأ أيضا: https://attalitaplus.ma/?p=2057
تابعنا على فايسبوك :https://www.facebook.com/Attalitaplus


